سفر |
الهجرة المناخية.. كيف يؤثر المناخ على أنماط الهجرة في تونس
في مدينة قبلي الصحراويّة الواقعة جنوب شرق تونس، يعدّ إنتاج التمور بمثابة المصدر الرئيسيّ للدخل لآلاف المزارعين في المنطقة.
وتُعدّ التمور أحد أهمّ مصادر العملة الصعبة لتونس التي تعتبر من كبار مصدريها عربيًّا، مستفيدة من قدرة أشجار النخيل على النمو في المناخات الحارّة والجافة وتحمُّل المياه المالحة
لكن تأثير تغير المناخ بدأ يلقي بظلاله على مردودية أشجار النخيل في المحافظة التي تُنتج واحاتها حوالي 60% من الإنتاج التونسي للتمور، مجبرًا العديد من المزارعين على مغادرة المنطقة. وساهمت موجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة في ظهور الحشرات الضارة للنخيل على غرار عنكبوت الغبار في الفتك بالمحاصيل والتأثير سلبًا على جودتها.
وكشف المزارع عامر بن بوبكر، في حديثه لـ"الترا تونس"، أنّ العشرات من أبناء منطقتهم فرّطوا في أراضيهم وهاجروا إلى مناطق أخرى في تونس، وخارجها.
وأضاف المزارع، البالغ من العمر 60 عامًا، أن وَلديه يعملان معه في حقله، لكنهما على الأرجح سيغادران مسقط رأسهما أُسوةً بالعديد من أصدقائهما ما إن توفّرت هناك فرصة سانحة.
وشهدت ولايات الجنوب الشرقيّ، خصوصا تطاوين وقبلي، عام 2022 موجة هجرة غير نظامية واسعة النطاق من تونس إلى أوروبا عبر طريق البلقان، وهي الموجة التي خفتت وتيرتها مع إعلان صربيا فرض تأشيرة على التونسيين في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022 بضغط من الاتحاد الأوروبي. كما شددت السلطات الأوروبيّة الرقابة على المهاجرين المحتملين، وأبرمت اتفاقيات تعاون مع دول مصدرة للمهاجرين مثل تونس وليبيا والمغرب، مما جعل رحلات عبور البحر أكثر تعقيدًا.
من جهته، اعتبر المزارع أحمد أنّه يواجه مشاكل جمّة لإيجاد عمّال مناسبين أثناء فترة جني المحصول، وهو ما دفعه لتوظيف شباب من المدن المجاورة.
وأشار المصدر ذاته لـ"الترا تونس"، إلى أنّ مردودية حقله تنخفض بوتيرة "مخيفة" مع ظهور عنكبوت الغبار (وهو مرض يصيب التمور) ونضوب الموارد المائيّة الجوفية في المنطقة بسبب الاستغلال غير الرشيد لسقي الواحات
وكشفت دراسة حديثة أنّ واحة قبلي هي أكثر الواحات التونسيّة استنزافًا لمواردها المائيّة الجوفيّة، حيث بلغت نسبة استغلالها للموارد المائيّة أكثر من 150%، وهي غير قابلة للتجدّد.
وتعدّ تونس من بين الدول المهددة بندرة المياه في حوض البحر المتوسط، بسبب آثار التغير المناخي وطول فترات الجفاف.
البحَّارة يواجهون المصير نفسه
ليس المزارعون وحدهم مَن رزحوا تحت سطوة الطبيعة، واختاروا الهجرة الداخليّة للتكيف مع التغيرات المناخيّة، بل أدّى تراجع الثروة السمكية إلى جعل عدد من صغار البحّارة في جزيرة جربة الساحليّة (جنوب شرق تونس) يغيّرون أماكن سكنهم أو أنشطتهم الاقتصاديّة.
وتعمل راضية، البالغة من العمر 45 عامًا، مع زوجها بلقاسم في مجال الصيد البحريّ منذ أكثر من عقد. يستيقظ الزوجان منذ ساعات الفجر الأولى، يتوجهان إلى شاطئ جربة-أجيم، ويتقدمان بضعة كيلومترات بمركبهما الصغير للحصول على صيد مناسب
وتقول راضية: "في بداية الألفية الثانية، وإلى حدود سنة 2013، كان الصيد وفيرًا، وكان زوجي بلقاسم يمتلك مركبًا أكبر ويدير فريقًا مكونًا من ستّة بحارة. لكن مع عزوف الشباب عن العمل في الصيد، وانخفاض الثروة السمكيّة قبالة شواطئنا والمشاكل الصحيّة التي واجهها، يكتفي بلقاسم حاليًا بمركب صغير، وأشاركه العمل للضغط على النفقات".
وتابعت في حديثها لـ"الترا تونس": "ساهمت التغيُّرات المناخيّة في اجتياح العقرب (سلطعون البحر) لسواحلنا، وهو ما عمّق مصاعب البحَّارة. فقد غزا هذا الكائن العدوانيّ مياهنا وتكاثر بوتيرة سريعة دون أن نعرف مصدره، وهو ما جعل الخوف يتسرّب إلى نفوس صغار البحّارة في جزيرة جربة، ودفع العديد منهم إلى الهجرة بحثًا عن فرص اقتصادية أفضل".
ويُعتبر نبيل أحد هذه النماذج، حيث لجأ البحّار -البالغ من العمر 43 عامًا- إلى التخلّي عن قاربه البسيط والهجرة إلى فرنسا صحبة عائلته، معبرًا عن عدم ندمه من هذا القرار.
وأوضح نبيل لـ"الترا تونس" أن الآفاق كانت مسدودة أمامه، لأن ما يجنيه من البحر لم يكن كافيًا. مضيفًا: "تخيل أنّك تشتغل لمدة ثلاثة أيام ثم تتوقف عن العمل لأسبوع بسبب سوء الأحوال الجويّة أو تعطّل محرك قاربك، وعندما تستأنف العمل تُمضي نصف يومك منغمسًا في فصل مخالب سلطعون البحر بخس الثمن عن شباكك وتُنهي الشهر عاجزًا عن تغطية مصاريفك".
وأكّد المتحدث ذاته أنّه ليس استثناءً، بل إنّه يعرف العديد من البحّارة الذين فضّلوا التوقف عن ممارسة الحرفة التي تعلموها أبًا عن جدّ وغادروا الجزيرة، خصوصًا نحو الدول الأوروبيّة.
وتعاني تونس، كسائر بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، من تواتر موجات الحرّ التي تسبّب أضرارًا بالغة مثل حرائق الغابات والجفاف وفقدان المحاصيل.
ومع ذلك، فإنّ زيادة درجات الحرارة في البحر يمكن أن تلحق أضرارًا جسيمة لهذه الدول التي تضم أكثر من 500 مليون شخص، إذا لم يتم التعامل معها بأسرع وقت ممكن -وفقًا للعلماء- لأنها يمكن أن تتسبب في استنزاف الثروات السمكيّة.
ورغم أنّ البحر الأبيض المتوسط يمثل أقل من 1% من المياه السطحيّة البحرية في العالم، فإنه من أهم خزانات التنوع البيولوجيّ البحريّ، حيث يحتوي على ما بين 4% و 18% من الأنواع البحريّة في العالم.
وأوضحت منيار المجبري، منسقة منتدى الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة في تونس (منظمة غير حكومية)، أن تأثير تغير المناخ وتواتر موجات الجفاف، يُجبر المزارعين والبحّارة على مغادرة أراضيهم وتغيير أنشطتهم الاقتصاديّة.
ضافت منيار، في تصريحها لـ"الترا تونس"، أنّ المجهودات الحكوميّة للتعامل مع هذه الظاهرة ما زالت محتشمة، وتفتقد للتنسيق، مما يعمّق أزمة قطاعيْ الزراعة والصيد البحريّ، وهما القطاعان اللذان يعانيان أساسًا من صعوبات هيكليّة.
تعليق